وكل هذه التأويلات -كما قلنا- مبنية على فهم أن التردد نقص، فنحن نقول: لا يمكن أن يثبت الله تبارك وتعالى أو يثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم ما فيه نقص، وما في ظاهره نقص فلا بد من أن الحديث أو الآية توضح، فمثلاً: حديث: ( مرضت فلم تعدني )، فالمرض نقص، وفسره بقوله: ( مرض عبدي فلان فلم تعده )، وبالتالي لا ينسب المرض إلى الله؛ لأن الحديث يقول: ( مرض عبدي فلان ) مثل حديث الولي، لكن لماذا يقول: مرضت؟ يقول: يا من تغفلون عن قدر أولياء الله وعباد الله الصالحين، انتبهوا، عندما مرض هذا العبد فلم تعودوه، وعندما جاع فلم تطعموه، فأنا أنسب ما وقع به إلى نفسي من شدة محبتي له، ولعظيم منزلته عندي، ولذا أقول: مرضت، فالحديثان متطابقان، وغيرها من الأحاديث لا تتناقض أبداً على مذهب أهل السنة والجماعة والحمد لله؛ لأنه: ( كنت سمعه وبصره ويده ورجله ) التي مرت معنا في الحديث، نفس الشيء، وهذه منزلة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، فهل يتضمن ذلك إثبات المرض لله؟ لا؛ لأن الله ما قال ذلك، وإنما بين أن الذي مرض هو العبد.
أما التردد فنسبه إلى نفسه ولم يقل: ترددت ملائكتي، لكن لماذا نحن نؤول؟ نقول: التردد على ظاهره، وهو ليس تردد الجاهل بالعاقبة حتى يذم، وإنما هو تردد الكريم الذي يريد أن يفعل أحد الأمرين، ولكن أحدهما لا بد منه، والله تعالى كريم وعليم ولطيف، فهذه كلها ثابتة له تبارك وتعالى ولا تتعارض.
لكن قد يقول قائل: إن مصلحة الولي أنه يعيش ليزداد من الحسنات حيث قال: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله )، لكن قال: (ولا بد له منه) (( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))[الأعراف:34] فقد جاء الأجل فكيف ذلك؟ نقول: لا تعارض، إذ إن التردد يقع بعد أن طال عمره وحسن عمله، ثم إن طال عمره وحسن عمله، أليس لزاماً أن يموت؟ وهل أحد من الناس يحب الموت؟ هل من طبع البشر أن يحب الموت؟ إن القضية مهما طولتها فإنه يأتي وقت لابد أن تقبض روحه، ولو خير لما اختار، وإن اختار البعض فلا يختار الكل، فالمقصود هنا ليس العموم على أية حال، لكن يوجد من لو خير لما اختار الموت.
إذاً: الحديث على ظاهره، والتردد بهذا المعنى لا يستلزم النقص والتمثيل والتشبيه كما يقولون، وإنما هو صفة كمال يتصف بها الكريم إذا أراد أن يترفق بمن يريد أن يكرمه من أحبابه.
كما أنه أيضاً قد يقول قائل: يمكن أن يكون كناية، قلنا: الكناية لا تنفي الحقيقة، والإمام الخطابي رحمه الله لما قال: (إن هذا عطف الله على العبد ولطفه وشفقته)، قلنا: هو عطف ولطف وشفقة، لكن الكلام: هل نؤول أم لا؟ والقاعدة التي اتفقنا عليها من قديم -وهي قاعدة مهمة-: أنه لا يمكن أن نؤول أي نص من النصوص بالمعنى الذي يعنيه أهل البدع، أي: أن نصرفه عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، إذ إن مراد الله تبارك وتعالى من الآية، أو الحديث القدسي، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث الظاهر المراد منه لا يمكن أن يستلزم نقصاً أو تمثيلاً أو تشبيهاً، بحيث لا بد أن نؤوله ونقول: إن هذا الظاهر غير مراد؛ لأنه يلزم منه كذا وكذا، وفي الحقيقة أن التأويل تحريف الكلم عن مواضعه، أي: أن يكون الله عز وجل أراد أمراً معيناً، ونحن عرب ونفهم كلامه ونؤوله بمعنىً آخر، فمثلاً: ( إن الله يستحيي أن يرفع العبد يديه فيردهما صفراً )، فيقولون: الحياء هذا ضعف، وفيه شيء من الذلة، أو فيه شيء من الانكسار أو الرقة، وهذا لا يليق بالله عز وجل! فمن قال: إن شيئاً يثبت لله ويكون فيه هذه اللوازم، إن هذه اللوازم لو صحت فهي في حياء المخلوق، أما حياء الله فلا، إذ إن الرحمة هي انكسارٌ وخضوع ورقة، والله منزه عن ذلك، فنقول: إذا كانت هذه اللوازم باطلة، أو فيها شيء من الضعف والنقص فهي في حق المخلوق، مع أنه حتى المخلوق يرحم، وهي صفة كمال فيه، والله أولى بها، كذلك الغضب، إذ إن بعضهم قال: إنه غليان القلب وإرادة الانتقام، وهذا لا يليق بالله عز وجل، لكننا نقول: إن هذه اللوازم هي في حق المخلوق، أما الله تعالى فلا.